بين معتقل وشهيد

مقالات

بين معتقل وشهيد

بين معتقل وشهيد

الخامس عشر من شهر شباط في عام ألفين وثلاثة عشر الموافق ليوم الجمعة كانت عائلة أبي أحمد يتجاذبون أطراف الحديث، يتناقشون ويضحكون ، يخططون ويتفاءلون

أبو أحمد ذلك المربي الفاضل الذي نبت من صلبه نفر من الأخوة المثقفين المتفاهمين

وفي الساعة العاشرة من ذلك الصباح كان البكر أحمد الذي درس في كلية العلوم الإنسانية قسم الرياضيات يتناقش في أمر مع أخيه أنس الذي يصغره من العمر ست سنوات .

 العبقري أنس الذي نال درجة الريادة على مستوى القطر في مجال الحاسوب وهو في السادسة من عمره.

كانوا يتناقشون كعادتهم في أمر الوضع الراهن والأحداث الجارية، ليقطع حديثهم صوتٌ زلزل أركان المنزل، صوت انفجار قريب للغاية.

غبار ودخان ملأ الشارع ، صراخ واستغاثات ، ترى الناس يهيمون كالسكارى، أم تبحث عن ابنها، وولد يبحث عن أبيه وأخ عن أخيه .

 تجلى الغبار بعد دقائق فرأيت أحمد مستلقياً في الشارع ، سمعته يصرخ هل هناك إصابات ؟؟

انقطعت الأصوات برهة من الزمن انقطعت معها أنفاسنا، ليكسر ذلك الصمت صوت أحمد صارخاً “إلى بيوتكم ابتعدوا عن المكان فقد تسقط قذيفة أخرى “.

هذه هي عادة ذلك الجيش الجبان، يرمي قذيفة ليجتمع الناس ثم يرمي قذيفة أخرى ، ليخلف أكبر عدد من المصابين.

وفعلاً ذلك ما حدث… لم يكن أحمد ينهي تحذيره للناس حتى تحول المكان إلى غمامة سوداء حجبت الرؤية تماماً

 دخان أسود كثيف تلاه مباشرة صوت زلزل القلوب

قطع من الحجارة والحديد تتطاير و تتخبط كالمجنون الذي مسه العفريت.

وانجلى الدخان…

انجلت تلك الغيمة السوداء مخلفة وراءها ثلاثة عشر شهيداً والكثير من المصابين .

رعب وظلام ، بكاء وحِمام ، دمار وركام

ومن بين كل الأصوات المتداخلة المستغيثة سمعت صوت أحمد .

سمعته يصرخ ويقول (( اتركوني وأسعفوا ابن عمي ، أسعفوه فوضعه أصعب من وضعي))

رأيته مستلقياً في الشارع وبركة من الدماء تحيط به.

نعم … لقد بترت ساقه اليسرى من الفخذ

نعم … لقد قالها عندما استفاق من عملية البتر

قالها وكله ثقة بالله وكله عزيمة وتفاؤل تخر له عزائم الرجال لقد قالها مواسياً أباه ((لا تحزن يا أبي ، لقد سبقتي تلك الساق إلى الجنة ))

أحمد الذي ما إن عاد وتأقلم مع الحياة الجديدة بساق وعكازين، ليتم اعتقاله من قِبَل العصابات الهمجية بعد ما يقارب السنة من ذلك اليوم الأليم والذي لم يُعرف عنه أي خبر حتى يومنا هذا

أتذكرون أنس!!؟؟

ذلك العبقري الصغير صاحب الستة عشر عاماً

 

الصبي المَرِح المُشاكس

هذا الصبي الذي رفض مشاهدة الظلم والوقوف متفرجاً منذ بداية الثورة السورية في عام 2011 ليخرج حاملا هاتفه المحمول ويبدأ حياته كمصور وصحفي صغير.

أنس الذي كان كل همه إيصال معاناة المظلومين للعالم أجمع

كبر هذا الفتى قبل عمره

ليلتحق بعد فترة بفرق الدفاع المدني في عام 2014  ويكمل ما بدأ به منفرداً ولكن هذه المرة كعضو في المكتب الإعلامي وناشط مع زملائه في الفرق الإسعافية.

صبيٌّ نُزِع الخوف منه

كان يركض من مكان لآخر مسعفاً تارة، مصوراً وصحفياً تارة أخرى.

أنس هو أحد الشاهدين الثلاثة الذين أُخِذ بشهادتهم على مجزرة الأسلحة الكيميائية في مدينة خان شيخون.

ذلك الفتى الذي كرس حياته من أجل الآخرين وتعرض للعديد من الإصابات التي ما كانت إلا دافعاً له ليكمل طريقه في إيصال المعاناة والمآسي الناجمة عن ألم فقد البعض وإصابة البعض الآخر.

أصيب أنس إصابته الأخيرة في عام ألفين وثمانية عشر وكانت إصابته إصابة بليغة في الفخذ ، مكث على أثرها ما يقارب السنة لا يستطيع المشي وكل هذا لم يثن من عزيمته، فبقي متابعا ناقلا للأخبار مثابرا في عمله على نقل صورة الناس الأبرياء إلى أن أتى اليوم الذي قام فيه من الفراش عائداً إلى الساحة ليكمل تلك الرسالة البهية الذي بدأ بها ،ليقع شهيداً بإذن الله أثناء عمله مع أصحاب القلوب البيضاء “الدفاع المدني السوري” بغارة جوية غاشمة في الواحد والعشرين من شهر حزيران عام الفين وواحد وعشرين

ليتحول الشاهد إلى شهيد

فيرحل أنس عن الدنيا تاركاً خلفه فسحة كبيرة من الشوق في قلب كل من عرفه، هو الذي كان الشمعة المضيئة في حياة الكثير من المنكوبين والمجروحين.

 

ليترك هذان البطلان خلفهما الكثير من حكايات الصبر والعزم والإصرار

مع الكثير من الحزن والألم على فقدهم.

بقلم:

شارك هذا الموضوع:

Facebook
Twitter

أقرأ أيضاً

حكاية شاب سوري

مقالات حكاية شاب سوري حكاية شاب سوري ولدت في بلدة صغيرة تقع في قلب سوريا، الأصل من محافظة إدلب، لكني …

رسالةٌ إلى طَلبةِ العلمِ..

مقالات رسالةٌ إلى طَلبةِ العلمِ.. رسالةٌ إلى طَلبةِ العلمِ.. السلامُ على بُناةِ هذه الأمّة.. يا مَن تغربوا وكافحوا وما استسلموا …

الخيرة في ما اختاره الله

مقالات الخيرة في ما اختاره الله الخيرة في ما اختاره الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في عام 2018 درست …

دروس قيّمة من تجربة اجتماعية لطالب جامعي

مقالات دروس قيّمة من تجربة اجتماعية لطالب جامعي دروس قيّمة من تجربة اجتماعية لطالب جامعي في يوم من الأيام، كان …

أهمية الانضمام الى تجمع الطلاب وفوائدها

مقالات أهمية الانضمام الى تجمع الطلاب وفوائدها أهمية الانضمام الى تجمع الطلاب وفوائدها بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على …

 تقنية الطماطم

مقالات تقنية الطماطم  تقنية الطماطم… استراتيجية قد يجهلها الطلاب الجامعيون يعد تنظيم الوقت أو التركيز في حفظ المنهاج الدراسي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *